هل الإنسان مسير أم مخير؟
وهذا موضوع فلسفي، القصد منه عند بعض الناس التهرب من التكاليف، فإن قيل: إنه مسير، قال: إذاً لماذا أحاسب على شيء ليس لي فيه خيار، وإن قيل: إنه مخير، قال الكلام نفسه، لماذا أحاسب على شيء سمح لي بحرية الاختيار فيه، ففي جميع الأحوال يريد أن يهرب من العمل .
والجواب أن الإنسان مخير في بعض الأمور، ومسير في بعضها الآخر، فإذا كان الإنسان مجنوناً فلا يحاسب أبداً، لأنه مسلوب الإرادة، قال: r” رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ * وقال أيضاً: “إِنَّ اللَّهَ تجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ) ابن ماجه / الطلاق برقم(2043).
فهذه الأصناف لا إثم على أصحابها؛ لأنهم مسلوبي الإرادة، أو ناقصي الإرادة، وهذه رحمة من رب العالمين، ولمزيد من الإيضاح نقول:
لو نطق النائم بما يأثم به المستيقظ لما لحقه بذلك إثم، بينما لو نطق النائم بما يثاب عليه المستيقظ، لنال الأجر والثواب بذلك، لقوله تعالى: )لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286البقرة.
فمعني: )كَسَبَتْ( أي بقصد وبغير قصد، بينما: )اكْتَسَبَتْ( لا تكون إلا عن قصد وتصميم، فلا يمكن أن نساوي بين رجلين أحدهما قتل نفساً مع سبق الإصرار والترصد، والآخر أراد أن يطلق النار على صيد، فإذا به يصيب إنساناً.
ولذلك فإن الله تعالى لو عاملنا بالعدل فقط، لهلكنا جميعاً، ولكنه يعاملنا بالعدل والإحسان، فالله تعالى يقول في الحديث القدسي:” الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا أَوْ أَزِيدُ وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ أَغْفِرُ ” أحمد في مسنده برقم(20808).
ولنفرض أن شخصاً قال: كل من ركض إلى جهة القبلة فله عندي جائزة، عدا الجوائز للأوائل، ثم قال: ولعل أحدكم يكون مريضاً فليحرك رأسه يميناً وشمالاً فله جائزة، فكم يكون هذا الشخص كريماً؟.
والله إنه لكريم. لكن لو قال أحد الحاضرين: سأركض بالاتجاه المعاكس معاندة ومكابرة وعصياناً، فلم يعطه الرجل الكريم جائزة، فهل هذا يعني أنه أصبح بخيلاً، أم أنه عامل المعاند بالعدل؟ لذلك يقول: r”
((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)) ” (البخاري:7280).
فالله لا يحب تعذيب العباد، ولكنه لابد من محاسبة المعاندين، بعد أن هيأ الله لهم كل أسباب الهداية، قال تعالى: )مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147النساء.
فإذا عاد الإنسان إلى رشده وتاب إلى الله فإن الله يفرح بعبده التائب،إذ يقول: r” لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ)) (مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، برقم(2744)