حل الإشكالات:
لما رأى الكفرة والملحدون، والزنادقة والمشككون، وأعداء الإسلام وعلى رأسهم إبليس اللعين، فائدة الإيمان بالقضاء والقدر، أعملوا فكرهم، وشحذوا هممهم؛ ليهدموا هذا الصرح في قلوب المسلمين .
فمن المعلوم أن إبليس-نعوذ بالله منه-حاول جاهداً أن يقنع آدم وحواء، بكل حيلة ووسيلة بأنه ناصح لهما ) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ(، وحلف بالله كاذباً، وأقسم على ذلك، وكأن الله تعالى كان يمكر بآدم وزوجه، بينما إبليس ينصحهما، فلعنة الله على الكاذبين) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ( وهددهما بالموت، ومناهما بالخلد والملك.
) وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ(20 الأعراف) وكان ما كان من قصة آدم، وخروجه من الجنة لتكون موعظة لنا وعبرة، وأثبتت لنا بالتجربة والبرهان أن إبليس كان كاذباً، ولا يزال يسيطر على عقول الناس، فالوهن الذي أصاب الأمة، ويحيط بها الآن على كثرتها إنما هو بسبب: حب الدنيا، وكراهية الموت.([1]).
ولا يزال إبليس وأتباعه من الجن والإنس يحيكون الدسائس لهذه الأمة، ليبعدوها عن دينها، ويضعفوا إيمانها بربها وتوكلها عليه، فأثاروا العديد من الشبه، فصدقها ضعاف النفوس، وقليلو الإيمان، وسنفند هذه الشبه واحدة بعد الأخرى.
الشبهة الأولى: تبديل المفاهيم:الله رازق، الإنسان عابد (فعكسوها).
فمن المعروف لدى الجميع أن الله تعالى هو الرازق، والهدف من وجود الإنسان على هذه الأرض هو العبادة، وأما الرزق فقد تكفل الله به، إذ يقول جل وعلا:)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ% مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ[ الذريات:57)
ولكنّا نجد أن بعض الناس يسعى للرزق بكل قوته معتمداً على نفسه، وذكائه، ومهارته في كسب المال، دون النظر إلى باقي العوامل، وإذا سألته: لماذا تسعى لجلب الرزق مبكراً؟ رد قائلاً: إن الله يقول: واسعوا في مناكبها، فيغلط في الآية و في فهمها فجعلوا الرزق من الأرض، ونسوا رب الأرض، فضعف التوكل على الله عندهم.
وإذا سألت أحدهم: لماذا لا تصلي؟ قال لك: الله يهدينا، فجعل وظيفة الله سبحانه هي دفعه إلى الصلاة دفعاً، ولم يعلم أن البداية يجب أن تبدأ من قِبل العبد، إذ يقول تعالى: ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ(، سورة محمد آية (17).والمصلي عندما يشرع في الصلاة ويقرأ الفاتحة يقول: ) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(، أي زدنا هدىً وثبتنا.
فهم قد قلبوا المفاهيم، وتركوا الصلاة بحجة أن الله لم يهدهم، وينتظرون أن يدفعهم الله إلى الصلاة رغماً عنهم، وهذا هو مفهوم الهداية بنظرهم.
وإذا جاء الجهاد، قالوا: لماذا نجاهد؟ فإن كتب الله لنا النصر انتصرنا وإن لم نجاهد، وإن كتب علينا الخذلان، فلماذا نزهق أرواحنا بلا فائدة:)الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ( ، فجاء الرد الإلهي عليهم:) قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (آل عمران 168).
ونسي أولئك أن المسلم إنما يقاتل لينال إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، وهو لا يعلم أيهما يريد الله أن يحقق له منهما، فعليه أن يمتثل لأمر الله الذي فرض علينا الجهاد، ثم ليقضي الله ما يريد، لأن الله تعبدنا بالوسائل.
وإذا قيل لهم أنفقوا على عباد الله الفقراء من المال الذي استخلفكم فيه، قالوا كما قال أسلافهم:
)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(يس047)، ونسوا أنهم مستخلفين في هذا المال، وأنهم مأمورون بالإنفاق:
) وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (الحديد.(7)، ولكنهم ينسون ذلك، ولا يتذكرونه إلا عند النزع الأخير:) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (99المؤمنون.
وهذا الإقبال على الدنيا والتهافت عليها، وترك العمل للآخرة، يذكرني بنكتة، وهي:
أن رجلاً قال لرفيقه: يا عبد القادر، قم واذهب إلى السوق لتشتري لنا طعاماً، فقال: لست بقادر، فذهب الأول وأحضر الطعام، ثم قال لرفيقه: يا عبد القادر، لقد أحضرت الطعام، فأحضر الصحون، فقال: لست بقادر، فأحضر الصحون ثم قال له:
يا عبد القادر، لقد وضعت الطعام في الصحون، فأحضر لنا الماء، فقال: لست بقادر، فجهز كل شيء، ثم قال له: يا عبد القادر، لقد جهزت كل شيء فتعال لتأكل، فقال: يا قادر أسعف عبد القادر، حتى يصبح على تناول الطعام قادر.
وفي اليوم التالي اختصر رفيقه الطريق وجهز كل شيء ولم يكلف عبد القادر بشيء، ونادى عليه قائلاً: يا عبد القادر، لقد جهزت كل شيء، فقم لتتناول الطعام، فقال عبد القادر: يا رفيقي، والله لقد استحييت منك لكثرة ما قلت لك: إنني لست بقادر، فقام وأكل.
وقصة الحداد والكلب مشهورة، إذ يبقى الكلب نائماً طوال الفترة التي يعمل فيها الحداد، وعندما يستريح لتناول الطعام، يستيقظ الكلب، فقال الحداد مخاطباً الكلب: عجباً لك، فصوت المطارق العالي لا يوقظك، أما صوت المضغ الخفي فيوقظك!
وعندما يدوي صوت المؤذن في أرجاء المعمورة ومن خلال مكبرات الصوت: ” حي على الصلاة، حي على الفلاح” تجد كثيراً من الناس لا يتحرك، ولا يحرك ساكناً، وعندما ينادى بصوت عادي: هيا إلى الطعام، يقوم نشيطاً، ويسيل لعابه، فهل هذا هو القضاء والقدر، أم هو قلب للمفاهيم؟
الشبهة الثانية: الخلط بين العلم والإجبار: فبعض الناس يقولون: إذا كان الله يعلم بأننا سنفعل كذا وكذا، فلماذا يحاسبنا عليه؟
والجواب: إن من صفات الله تعالى: العلم، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن، إلا ويعلمه الله سبحانه ) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59الأنعام
فالله تعالى يعلم بأنه سيحدث منا كذا وكذا، وأمر بتدوينه في اللوح المحفوظ، تدليلاً على علمه بالأشياء قبل وقوعها، دون أن يلزم أحد ا بذلك، أو يجبره على فعلها.
والأخطر من ذلك هو هل يصح أن يكون الإله جاهلاً بما سيجري في ملكه؟ بالطبع كلا وألف كلا؛ لأن الله تعالى عليم خبير، ويعلم منذ الأزل ما جرى، وما سيجري في الكون حتى قيام الساعة، وما بعد ذلك أيضاً، ولكن هذا لا يعني بحال الإلزام أو الإجبار، فعلم الله تعالى كاشف وليس بمجبر.
فلو أن رجلاً كان يشاهد فيلماً بوليسياً على شاشة التلفاز في بيته، وأثناء ذلك حصلت جريمة قتل في الفيلم، فهل يحق للشرطة أن تلقي القبض على هذا المشاهد، لأنه لم يغلق الجهاز بعد مشاهدته للجريمة، وأنه شريك فيها؟ بالطبع لا، لأن المشاهد لم يتسبب بالجريمة لمجرد أنه تفرج عليها، لأن تمثيل الجريمة قد وقع سواء نظر إليه المشاهد أم لم ينظر.
ولو أن الجهات المسؤولة كتبت تحذيراً على الطريق ينبه السائقين إلى وجود منعطف خطر على بعد(500) متر، ثم على بعد(400) متر، وهكذا تزيد لافتات التحذير كلما اقترب المنعطف، فمرت سيارة مسرعة، وكلما مرت عن تحذير زادت سرعة السيارة، فقال الشرطي الذي كان يقف عند أول تحذير لمن حوله:
أقسم بالله العظيم بأن هذا السائق سيتدهور عند المنعطف ويموت، وبالفعل تدهور السائق ومات عند المنعطف، فهل لذوي السائق أن يطالبوا الشرطي بدية السائق، لأنه عرف بخبرته بأن هذا السائق سيقع له ما وقع؟
ولو أن رجلاً كان ينظر بمنظار فرأى رجلاً يقتل آخر، فهل يحاكم لأنه لم يغمض عينيه؟
ولو أن مدرساً يدرس أحد الصفوف لعدة سنوات، ومن خلال خبرته بطلابه ومعرفته بهم قال: إن زيداً سيكون الأول على الصف، وعمراً سيكون الثاني، وعلياً سيكمل في الرياضيات، وسعيد سيكمل في اللغة الإنجليزية، ودون هذا في دفتر ملاحظاته، وأخفى ذلك عن التلاميذ حتى نهاية الفصل، ولكنه بذل كل ما بوسعه في تدريس الطلاب جميعهم، والنصح لهم، وتوجيه الإرشاد لهم والتحذير من الرسوب أو الإكمال، ووعد المتفوقين بالمكافأة، ووعد المقصرين بالعقاب، وفي نهاية العام جاءت النتائج كما توقع تماماً، فهل يكون هذا المدرس ظالماً؟ اللهم لا.
مثال: ولو طلبت من جماعة أن يدلوني على شخص أمين؛ لحاجتي لمشاركته في متجر فدلوني على فلان فقلت لهم: هذا خائن، ونادوا لي عليه، حتى تعرفوا صحة ما قلته لكم .
وعندما جاء طلبنا منه أن يشتري لنا غرضا من السوق، وعندما أحضره قلنا له: كم ثمنه؟ فقال: عشرة دنانير. وعندما تحققنا من الأمر وجدنا أنه اشتراه بخمسة؛ وبذلك عرفوا صدق ما أخبرتهم به؛ فهل أنا بذلك ظالم له أم عالم به؟ والجواب: أني قد كشفت لهم حقيقة هذا الشخص.
وقديماً احتج الكفار بهذه الحجة ) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ (،فجاء الرد من الله تعالى بتكذيبهم: )كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (،59الأنعام.
أي أنكم تحتجون بالقدر بعد فعل المعصية، فهل أعطاكم الله وعداً بأنكم سترتكبون المعصية في الوقت الذي فعلتموها به؟ أم أنه تخرص، وظن؟
فلله الحجة البالغة عليكم، ولو شاء الله لجعلكم كالملائكة لا تخطئون أبداً، أو كالحيوانات لا حساب عليها، أو كالجماد لا ذنب ولا حساب، ولا حتى حركة، ولكن الله سبحانه وتعالى اختار للإنسان أن يكون صاحب إرادة، واختيار، فإن توجه لفعل الخير مع قدرته على فعل الشر، كان أفضل من الملائكة التي تفعل الخير ولا تملك أن تفعل غيره،
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7البينة.
ومن توجه لفعل الشر، وهو قادر على فعل الخير، فهو أشر من الدواب التي لا تملك أن تصوم مثلاً، ولكنها لو استطاعت ذلك وأمرت به لفعلت
) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55الأنفال.
الشبهة الثالثة: الخلط بين الرضا والإرادة. فقالوا:
إذا كان لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بإذن الله، وبإرادته فلماذا نحاسب؟.
ومع أننا تعرضنا في لهذه القضية من خلال الحديث عن الشبهة الثانية، لكنا سنوضح هذا الأمر بمزيد من الأمثلة، كي يمكن التفريق بين الإرادة والرضى.
فلو أن أحد المطلوبين لتأدية خدمة العلم، أراد التهرب من الخدمة بشتى الوسائل، وأخيراً استنفذ كل الأعذار، فقال له الضابط المسؤول:
أنت بين خيارين: إما أن تؤدي الخدمة الإلزامية لمدة سنتين، وإما أن تسجن ثلاث سنوات، فإن كان عاقلاً سيختار الأمر الأول، ليس حباً في الخدمة العسكرية، وإنما هروباً من السجن الذي هو أشد وأقسى من الخدمة، وأطول مدة.
إنه أراد أن يذهب، ولكنه لم يرض بذلك، إذا: فالإرادة غير الرضى.
جاء بعد هذا شاب آخر وحيد الأبوين، فقال له الضابط المسؤول: أنت معفي من الخدمة العسكرية؛ لأنك وحيد أبويك، والقانون يعفيك من الخدمة، لكن الشاب أجابه:
إنني أريد الخدمة بإرادتي؛ لأنني أعرف أن الخدمة العسكرية شرف ورجولة، وشهادة في سبيل الله، فأرجو أن لا تحرمني من نيل هذا الشرف، فذهب هذا الشاب إلى الخدمة العسكرية بإرادته، وبرضاه أيضاً، فهل تحرك الأول كتحرك الثاني؟ لا، فالاثنين تحركا بإرادتهما، ولكن الأول بغير رضاه، والثاني بكامل رضاه،
وإذا استطعنا أن نفرق بين الإرادة والرضى، استطعنا أن نفهم قوله تعالى: ) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ(7الزمر)
ولكن الله عز وجل لم يترك للكفار حجة، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، بل قطع على نفسه عهدا بأن لا يعذب أحداً لم تبلغه الرسالة، فقال تعالى:
) وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15الأسراء..
فلو أنك أعطيت سيارتك لصديقك، وفي الطريق لقي عجوزاً، فحمله معه في السيارة، وساعده في الوصول إلى بيته، دون أن يأخذ منه شيئاً، فالخير ينسب لصديقك؛ لأنه هو الذي قام بالمساعدة، كما أنك تُشكر أيضاً؛ لأنك ساهمت في المساعدة بطريقة غير مباشرة، إذ لو لم تساعد رفيقك بإعطائه السيارة، فلا يستطيع أن يساعد نفسه، وبالتالي لا يستطيع مساعدة غيره، فالشكر لكما معاً.
بينما لو أنك أعطيت سيارتك في اليوم الثاني لصديق آخر، فلقي في طريقه عجوزاً، فصدمه عامداً متعمداً، ففي هذه الحالة الشر ينسب لفاعله وحده، ولن يلومك أحد؛ لأنك حينما أعطيته السيارة قصدت مساعدته، ولم تأمره بفعل الشر، ولكنك في كلا الحالتين عندما أعطيت السيارة لكل منهما، فيجب أن تتوقع الأمرين، ومن الكياسة أن أوصي الطرف الآخر بالخير وأحذره من فعل الشر، فأبرئ ذمتي.
وبعد: فإننا نقول: إن الله جعلنا مريدين بمحض إرادته هو، فكل تصرف نتصرفه إنما هو بإرادة الله تعالى، لكن الله تعالى يحب العمل الصالح ويرضاه، ويكره العمل الطالح، ولا يرضاه، فسبحان من أعطانا العقل والإرادة والقوة، وأرسل إلينا الرسل ليعلمونا، ويفرقوا لنا بين الخير والشر.
فنحن حينما نتوضأ، ننال الأجر والثواب، مع أننا قمنا بتنظيف أجسامنا، وإزالة الأوساخ عنها، وحينما نأكل ثم نحمد الله، يكتب لنا بذلك أجراً، مع أننا أتينا شهوة لنا، ولا نختلف في ذلك عن الكفار سوى أننا علمنا أن هذا الخير من الله فحمدناه عليه، بينما الكافر يرى أن هذا شيء من ملذات الحياة، يستمتع بتناوله، وهو عادة لا أكثر، فلم يفكر، فلا ينال شيئاً، وسيسأل عن ذلك يوم القيامة أيضاً، فأي كرم هذا الذي منحنا إياه ربنا تبارك وتعالى، فله الحمد والمنة.
الشبهة الرابعة:الخلط بين كتب وحاسب. فبعض الناس يقولون: طالما أن الله كتب علينا الأشياء فلماذا يحاسبنا عليها؟
وإذا سلمنا بهذا السؤال، فإننا نفترض بأن الإنسان كالريشة في مهب الريح، فهل هو كذلك؟ وما معنى قوله تعالى: ) إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (11الرعد، ولو سلمنا جدلاً بصحة السؤال، فعلينا أن نتعرف أولاً على الفرق بين: كتب وحاسب.
فلو ذهب رجل إلى المسجد ليصلي، فكسرت رجله في الطريق، نقول وبكل تأكيد بأن الله تعالى لم يكتب له أن يذهب إلى المسجد، لماذا؟ لأنه كُسِرَ وحُمِلَ إلى المستشفى، فهل يسأله الله تعالى يوم القيامة، عن تضييع صلاة الفجر في جماعة؟ طبعاً لا، بل إن الله سيكتب له أجر الجماعة مع أنه لم يصلها في جماعة، لقوله:r” إِذَا مرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا” (البخاري:2996).
ذلك لأنه لو كان معافى لذهب إلى المسجد ولم يتوانى، ولأن الله يحاسب العبد بحسب نيته لقوله r” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ” (رواه البخاري بدء الوحي برقم(1).
و لذا فقد ورد في مجمع الزوائد ج: 1 ص: 61 عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( نية المؤمن خير من عمله ). ولذلك هناك فرق بين: كتب وحاسب.
فالنمرود مثلا حاول أن يحرق إبراهيم u بالنار، ولكن النار لم تحرق سيدنا إبراهيم u؛ لأن الله لم يكتب له أن يُحرق بالنار، فهل ينجو النمرود من العقاب يوم القيامة؛ لأن سيدنا إبراهيم u لم يحرق، ولم يكتب الله له ذلك؟! اللهم لا؛ لأن نية النمرود انعقدت على حرق إبراهيم عليه السلام، فسيحاسب على ذلك.
كما أن سيدنا إبراهيم uسيؤجر على صبره، وكأنه حرق فعلاً، لأن النية انعقدت عنده على الشهادة في سبيل الله، ويوضح هذا قول النبي: r ” إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ “.( رواه البخاري في كتاب الإيمان برقم(31).
وخلاصة القول: إننا يجب أن لا نسأل ماذا كتب الله علينا، لأن هذا من شأن الله وحده، ولكن يجب أن نسأل: هل سيحاسبنا الله على هذا العمل الذي ننوي القيام به، أم لا؟
كما يجب على الإنسان المسلم أن يكون مستسلماً لله، فلا يقول: يا رب أعطني مالاً كي لا أسكر، أو ارزقني كي أصلي، و زوجني كي أصوم، فالذي يفعل هو هذا بيّاع مقايض، وليس مستسلماً عابداً، إذ أن المسلم هو المستسلم لأمر الله تعالى، ويقدم ما يستطيع من الأعمال الصالحة، ثم يتوكل على الله.
فليس العمل هو الذي يدخل الإنسان الجنة، ولكن حسن التوكل على الله والاستسلام لأمره، إذ يقول النبي r”(لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لا وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ )البخاري/المرضى31 .
وهذا التوجيه النبوي يغنينا عن الزيادة.
[1]) يقال بأن إبليس حاول أن يمكر بموسى u فقال: يا موسى أريد أن أتوب إلى Q وأنا نادم على فعلتي أشد الندم، وأنت كليم Q فقل له يتب علي . فكان الجواب أن جبريلu مستعد أن يدله على قبر آدم u ، فإن سجد له تاب عليه فقال: والله يا موسى لم أسجد له وهو حي، فكيف أسجد له وهو ميت؟ هنا ظهرت الحقيقة وبطل الخداع.