الرئيسية / المكتبة / اقتصاديات / الـبركـة مفهوم لا يدخل تحت الحاسوب

الـبركـة مفهوم لا يدخل تحت الحاسوب

الـبركـة

مفهوم لا يدخل تحت الحاسوب.

حينما سُئل الحاسوب – أذكى اختراع توصل له الإنسان حتى الآن-:

إذا كان عشرة عصافير على شجرة، ثم جاء صياد وأطلق النار على العصافير، فأصاب اثنين منها، فكم عصفوراً يبقى على الشجرة؟

 أجاب الحاسوب بإصرار بأنه يبقى ثمانية عصافير على الشجرة، ولكن أي عاقل يعرف بأن العصافير طارت جميعها، ولم يبق على الشجرة عصفور واحداً حينما سمعت صوت البارود، إلا أن الحاسوب لا يعرف هذه الحقيقة.

أسوق هذا الكلام في مقدمة كلامي عن البركة التي لا تدخل تحت نظام الحاسوب ؛  ذلك أن عوامل كثيرة تدخل في العملية الحسابية عندما تتعلق المعادلة بأمور إنسانية.

ولذلك نجد أن الكلبة تلد مرتين في العام الواحد، وتضع في كل مرة بمعدل ستة جِراء، وهي شرسة تستطيع الدفاع عن نفسها، ولا يأكلها الإنسان أو الحيوان، ومع ذلك نجد أن عدد الكلاب في جميع أصقاع الدنيا أقل بكثير من عدد الأغنام.

 في حين أن الشاة لا تلد سوى مرة واحدة في العام، وتضع مولوداً واحداً في أغلب الأحيان، ويأكل منها الإنسان، والوحوش، وغيرها، فما السبب في ذلك؟ إنها البركة.

وإذا نظرنا إلى أحوال الأغنام والكلاب نجد سر هذه البركة، فالأغنام تنام في بداية الليل وتستيقظ في الصباح الباكر، في حين أن الكلاب تسهر حتى الصباح، فإذا أذن المؤذن نامت لا تلوى على شيء، والصباح الباكر وقت مبارك فقد روى صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ قَالَ:

 قَالَ رَسُولُ اللَّه r:” اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا قَالَ وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا وَكَانَ إِذَا بَعَثَ تِجَارَةً بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ”([1])

وإذا طبقنا ذلك على الأمم وجدنا أن اليهود يعود تاريخهم إلى أكثر من خمسة آلاف عام، بينما المسلمون يعود تاريخهم إلى أقل من ألف وخمسمائة عام، ومع ذلك فإن أمة اليهود لم تصل إلى ربع العشر مما وصلت إليه أمة الإسلام، لماذا يا ترى..؟

الجواب بسيط: إنها البركة، البركة التي تأتي مع صلاة الفجر، ومن الصلاة الإبراهيمية التي نقرأها في كل صلاة: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم… في العالمين إنك حميد مجيد.

وما هي سبب البركة التي نزلت على سيدنا إبراهيم عليه السلام؟

إن إبراهيم عليه السلام كان يعيش في أمة مصرة على الكفر والشرك والعناد والتكبر على آيات الله، ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة في رجل كما وصفه الله تعالى بقوله: في سورة النحل آية (120).

)إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(

 فكان القنوت لله سجيته، والميل عن الكفر طبيعته، والبعد عن المشركين سمته، والشكر لله مزيته، وتعداد نعم الله تعالى عمله، فمن هنا استحق الاجتباء والهدى إلى صراط الله المستقيم جائزة في الدنيا والفوز بالجنة والرضوان ثواباً في الآخرة.

 ولقد بارك الله تعالى في إبراهيم، فكم من أمة تحبه وتتشرف بالانتساب إليه، فالعرب تفتخر به وتدعي أنها تنتسب إليه، وتسير على نهجه، وكذلك اليهود يقولون: نحن أحفاده، والنصارى يتباركون به، ولكن الله فصل بين المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة، فها هو سيدنا إبراهيم يتبرأ من أبيه حينما عرف بعداوته لله:

)فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(، ( التوبة 114). ويوم القيامة لا ينفع الإنسان إلا ما قدم، قال تعالى:

)يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(. (الشعراء89).

وقد حلت البركة على سيدنا إبراهيم وهو يُلقى في النار إذ أوحى الله إلى النار بقوله:) يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ( الأنبياء آية (69)،  وحلت على ابنه إسماعيل حينما قدم للذبح)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم(  (    [2]) ،ولا تزال البركات تنهال على آل إبراهيم، وآل محمد الذين هم من آل إبراهيم.

 فأمة محمد rمطلوب منها أن تعود إلى ينبوع البركة الذي لا يقع تحت حسابات البشر، أو مفهوم الحاسوب، وذلك بالعودة إلى القرآن الكريم المبارك، والى كل آية من آياته.فالوحدة فيها البركة، والاجتماع على الطعام سبب في بركته، فقد شكا بعض الصحابة إلى النبي r:قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ: “فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، قَالُوا: نَعَمْ قَالَ فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ

عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ”([3]) .

  كما أن الاستيقاظ المبكر فيه البركة، وقد تقدم أن الله يبارك لهذه الأمة في بكورها، والزواج المبكر فيه البركة، لأنه يحصن الشباب من الوقوع بالفواحش والمحرمات، والتقوى سبب رئيسي من أسباب البركة، قال تعالى:) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (([4])

والتقوى لم تدخل يوماً تحت حسابات المادة أو تخرصات البشر، ولكن إذا ابتعدوا عن منهج الله القويم فسيصدق فيهم قول النبيr:” يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”([5]).

 وهذا ما تحقق فينا فعلاً، ولكننا عزاؤنا في قول النبي r الآخر إذ يقول جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ t سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ:” لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ r فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ”(رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم(156).

ومعلوم أن الشجرة التي لا تقلم تهرم بسرعة، والدم الزائد في الجسم إذا لم يخرج فإنه يهلك صاحبه، والأمة التي لا تجاهد يطمع بها أعداؤها،.

وأخيراً وليس آخراً:

 فإن حسابات المادة شيء آخر غير ما يقوله الله تعالى لعباده المؤمنين إذ يقول جل وعلا:

) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ( سورة البقرة آية (268و269).

وكذلك قول النبيr:”مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ” مسلم في  البر والصلة برقم(2588).

 ومعلوم في المقاييس المادية أن الصدقة التي تخرج من المال تنقصه، ولكن في حسابات الله، فإن الصدقة سبب في تطهير هذا المال ونمائه، إذ يعوض الله صاحب المال بالبركة التي تزيد هذا المال ولا تنقصه، وهذا مفهوم لا يدخل تحت الحاسوب، أو تحت حسابات المادة.

 


[1] ( قَالَ الترمذي حَدِيثُ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ حَدِيثٌ حَسَنٌ”. الترمذي في البيوع (1212)

([2])( الصافات 107).وراجع كتابي قرأت القرآن والإنجيل فأسلمت لتعرف انه الذبيح هو إسماعيل u في  القرآن والإنجيل

([3]) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة برقم(3286).

([4])سورة الأعراف آية (96).

([5]) رواه أبو داود في كتاب الملاحم برقم(4297)، وأحمد في المسند برقم(21891 )وراجع إنشئت كتابي  حتى يكون للجهاد معناه .

عن qudah

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

4- التوسط في الإنفاق

4- ...

%d مدونون معجبون بهذه: