الانبهار بالشيوعية:
جاء “كارل ماركس” يتوج جهود محاولي الإصلاح قبله وينادي بشعار:”يا عمال العالم اتحدوا” وأصبح ينادي بمبدأ: كل حسب حاجته، وكل حسب إنتاجه.
دار في خلد أنصار الاشتراكية أو الشيوعية: أن الكل يعمل حسب طاقته، ويقسم الناتج على الكل بالتساوي، فالفطور للجميع خبز وزيتون، أو قطعة جبن، والغداء للجميع بطاطا وبندورة، والعشاء كأس من الحليب أو بيضة، ولا فرق بين رئيس ومرؤوس.
فرح الناس بهذه الأفكار، وقامت الثورة الشيوعية في روسيا، إلا أن أصداء هذه الثورة هزت العالم هزاً عنيفاً للغاية، فكل مظلومي العالم أصبحوا يرون ضرورة القيام بمثل هذه الثورة والقضاء على كل الإقطاعيين الظالمين، والرأسماليين المستغلين لحاجات الشعوب ومقدراتهم([1]) .
الهزة الأولى تعيد تقييم الأمور:
استمرت الشيوعية تنتصر في بلد إثر بلد، والإقطاعيون الرأسماليون ينتفضون خوفاً وهلعاً، وما كان منهم إلا أن نادوا بشعار سري: يا رأسماليي العالم اجتمعوا، فاجتمعوا وتفاهموا، واتفقوا على أنهم إن لم يتورعوا عن ظلمهم وجشعهم فستأكلهم الشيوعية.
فما كان منهم إلا أن تعاهدوا على الأمور التالية:
1. الربا ممنوع فوق 20% -لا خوفاً من الله وإنما خوفاً من الشيوعية-
2. الاحتكار ممنوع إطلاقاً – لا كراهية بالظلم والاستغلال، ولكن خوفاً من انتشار الشيوعية بين الشعوب-، ولكن يسمح بجلسات التفاهم بين كبار المنتجين والمصدرين والمستوردين، والاتفاق على ما يناسب الجميع.
3. كل عاطل عن العمل يجب أن يأخذ معاشاً يكفيه هو وعياله-لا حباً في عدالة عمر وإنما خوفاً من انضمام العاطلين عن العمل إلى الأحزاب الشيوعية والمطالبة بمطالبهم-.
4. يجب إنشاء المستشفيات ومعالجة الفقراء فيها بالمجان- لا خوفاً من نار جهنم، ولا حباً بالمساكين، لكن خوفاً من نار الشيوعية الملتهبة-.
5. لا بأس بإنشاء أحزاب اشتراكية أو شيوعية، يقودها عملائنا، حتى نكون على اطلاع بما يجري من تخطيط ضدنا، كما أنه لا بأس بإنشاء دول تطبق الاشتراكية بتعسف، والشيوعية بصلف، لكي نعطي مثالاً مشوهاً عن الشيوعية، فيبدأ الناس بكراهيتها.
الشيوعية بين التخيل والتطبيق.
هل يمكن للمساواة أن تكون ظلماً؟
نعم، فالعدل غير المساواة.
عندما قامت الشيوعية كان كل ثائر يقول في نفسه: أنا عندي دينار، والإقطاعي عنده مليون، وعند تطبيق قانون الشيوعية ونتقاسم، سيصبح عندي نصف مليون ونصف دينار، فالشيوعي يقول: أقتل أقتل لكي تصل، والرأسمالي يقول: أقتل أقتل قبل أن تُؤكل.
وبعد نجاح الثورة والقضاء على الإقطاعي الواحد كان عدد الثوار الذين حاربوه: مليون، وعند توزيع ثروته نال كل واحد منهم ديناراً واحداً، فيا لخسارة الثورة.
جاء الفلاح الأول بخمسين كيس من القمح وأفرغها في صوامع الثورة لكي توزع على بقية الفلاحين، فما كان من المسؤول في القيادة إلا أن شكره وأعطاه لباس العمال الموحد، وعندما جلس ليرتاح من عناء السفر والتحميل والتنزيل،.
وإذا بفلاح آخر يأتي بكيس قمح واحد مهلهل، فأفرغه في الصومعة، وأخذ بدلة عمل موحدة كالتي أخذها الذي قبله بالمواصفات والمقاييس نفسها، لماذا؟ بكل بساطة: لأن الكل سواسية كأسنان الحمار([2])، إنه شعار الشيوعية: المساواة بين الكل، حتى بين المجتهد والكسول!
العدالة غير المساواة:
جاء أحد المهندسين في الصباح ليقول للمسؤول في القيادة: لم أنم البارحة حتى هذه اللحظة إلى أن اخترعت الجهاز الفلاني، فشكره وقدم له الفطور الموحد(جبنة وزيتون) كبقية زملائه الذين ناموا طوال الليل ولم يفعلوا شيئاً، وقال له: أرجو أن لا تتأخر عن دوامك غداً؛ لأن الشيوعية هي المساواة بكل أبعادها.
وفي الظهيرة جاء الطيار ليقول للمسؤول: لقد سهرت طوال الليل على الطيارة التي قمت بتطويرها وقدتها بنفسي عدة ساعات في الجو، فكانت كما توقعت تماماً، فشكره المسؤول وقال له:
لا تنسى أن تتناول طعام الغداء (بطاطا وبندورة) كبقية زملائك ( فالذي فكر والذي لم يفكر سواء)؛ لأن الشيوعية تعني المساواة، نعم المساواة بين الجميع!
إنها مساواة ظالمة، وحقاً: إن المساواة شيء، والعدالة شيء آخر([3])، فالشيوعية لا تعترف بالملكية الخاصة إطلاقاً، وهي بذلك تخالف الفطرة الإنسانية، لأن حب التملك غريزة فطرية في الإنسان، حتى أن الأطفال يتنافسون فيما بينهم أيهم يملك أكثر من الآخر.
تراجع وتراجع:
إن تراجع الرأسمالية الذي تحدثنا عنه فيما سبق، قابله تراجع من الشيوعية؛ لأن الناس أصيبوا بالإحباط، واصطدموا بواقع الشيوعية المر، وكأنهم خرجوا من نفق الإقطاع المظلم، ليسقط في حفرة الشيوعية السحيقة، فما العمل؟
فإذا كان للرأسمالية ثلاثة أخطاء هي: الربا، والاحتكار، وعدم مساعدة الفقير، فإن للشيوعية خطأ واحد، ولكنه أكبر من الثلاثة جميعها، وهو: عدم الاعتراف بالملكية الفردية، فالذي يعمل ويجد ويجتهد، يأكل كما يأكل الكسول المتهاون، وصاحب السهر والتفكير بمصالح الأمة يأخذ كالمتناوم، والبليد.
([1]) أقول: إن جوع الناس في روسيا، وطموحهم في نيل مال الإقطاعي، هو الذي جعل الثورة تنجح في روسيا، ذلك لأن الإنسان هو الأساس، والثورة في روسيا رغم أنها في الظاهر انتصار لكارل ماركس، إلا أنها كانت ضربة له في شيوعيته للأسباب التالية:
- لأنه كان يتوقع أن الشيوعية ستقوم في بريطانيا حسب رأيه، لأن الرأسمالية عندما تزدهر فإنها ستنتج الاشتراكية”حتما” ولكن خاب ظنه، وبان خطأ معتقده وتفكيره.
- كان يصر على أن الإنسان لا دخل له بالتغيير، وإنما الأمور تسير حسب قوانين حتمية، ومرة أخرى بان خطأه من هذه الناحية أيضاً، وهذا إعجاز رباني، إذ يقول جل شأنه ) إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ(، وفي ظني أن المظلوم لا يثور، ولكن الذي يثور هو الذي يشعر بالظلم، فقد تقوم ثورات ومظاهرات لأتفه الأسباب، في حين تنام شعوب على الظلم دهوراً لأن شعورهم قد تبلد، فالإنسان هو الأساس، وليس حتميات ماركس. ( راجع إن شئت كتابي حتى يكون للجهاد معناه/فصل الجهاد إرادة )
([2]) هذا التعبير كان يستعمل قبل بعثة النبي r تعبيراً عن المساواة الدقيقة، ولكن عندما جاء النبي r قال” الكل سواسية كأسنان المشط” وكم من فرق بين التشبيهين مع اتحاد المضمون .
([3]) راجع إن شئت كتابي: خمس مقالات حول المرأة.