الدعـــــــــــــــاء
الإنسان ضعيف مقهور صعلوك مخلوق مخروق … أصله نطفه قذرة … وآخره جيفة قذرة… وما بين هذا وذاك يحمل العذِرة … ومن كانت هذه حاله … وتلك أحواله … بالإضافة إلى أمه وأبيه وأعمامه وأخواله … فما باله لا يلجأ إلى الدعاء … ما باله …
إن الطفل حديث الولادة تجده يبكي … إنه محتاج لكنه يعترف بأنه محتاج … فلا هو يستطيع أن يذهب ولا يقدر أن يأتي … ولا هو يستطيع أن يدافع … ولا في المحاكم أن يرافع … ولا يقدر أن يأتي بالقروش… لكي يملأ بالطعام الكروش … فتراه مكتوف اليدين … مغمض العينين … ضعيف الساعدين…لا يقوى أن يقف على القدمين … فتراه لذلك دائم الاستغاثة… كثير البكاء… طويل الاستجداء… يلح ويكثر من النداء …
ويكبر المسكين يوماً بعد يوم … فتراه يعتمد على نفسه شيئاً فشيئاً؛ و يتباهى بقوته حيناً بعد حين؛.. ويرى أنه قد استحوذ على الأشياء فتره بعد أخرى!!.
وحين يريد الله تعالى بالعبد خيراً، فإنه يلبد الأجواء من حوله، فيعرف أنه لا يزال ضعيفاً محتاجا مقهوراً، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فيعود عند تلك الحاجة إلى الله تعالى معترفاً بذلته وعبوديته مقراً باحتياجه الدائم إلى المولى الذي، بيده مقاليد الأمور، يرزق الإنسان المشهور، كما يرزق الدواب، وجميع الطيور.
تجربة: … لعلها تكون فيها عبرة.
) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( (يونس:22) هذه صورة من صور الغفلة والاعتداد بالنفس … فكيف تكون العبرة بعدها؟ ( حتى إذا كنتم في الفلك ) هذا ذاهب للتجارة … وذاك ذاهب لعمارة… وآخر قد ألهته الدنيا المكارة… وأمرته النفس الأمارة … فهو يسعى لنعيم فاسد وخسارة … في سياحة من سفارة لسفارة … ( وجرين بهم بريح طيبة ) استوت الطائرة الكبيرة في الجو … والباخرة الفارهة أصبحت في عباب البحر.. وخرجت السيارة الفاخرة عن المطبات والمعوقات …( وفرحوا بها )وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث ويمنون النفس الأماني … وغرهم بالله الغرور …([1])
ولكنهم جميعاً كانوا حائرين عن الهدف الذي خلقوا من أجله … إن الدنيا كلها بما فيها من سماء ونجوم وكواكب وأفلام … وأموال… وصناعات ومتع … وحيوانات وطيور وأسماك … خلقت لهذا الإنسان … لكي يقوم بواجبه؛ من عباده لله تعالى، ونشر ودعوة لرفعة هذا الدين الكريم …
إن الفرحة التي يجب أن يسر بها الإنسان إنما هي ] فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[ (آل عمران 185)
وهنا جاءت الرحمة … بالتنبيه والتحذير … فلاحت في الأفق غيابه سوداء، ما لبثت إلا أن تكاثرت وتناذرت … وتبعها ما هو أكبر وأعتى… وبالخوف أجدر… وصار الفرحون خائفين أكثر وأكثر … ( جاءتها ريح عاصف) وبدأ ربان السفينة ينبه الناس إلى الخطر … فأمر بشد الأحزمة … وأخذ الحيطة والحذر … والانتباه من أي تصرف لا يخدم المصلحة العامة… فالأمر كما هو ظاهر للعيان … لا يحتاج إلى غفلة أو نسيان … أو تهاون أو خذلان …
وبعد قليل… لم يعد التطمين يجدي… ولا الأمر بالسكون والراحة ينفع، فالأمر لم يعد بالهين … ولا الشدة بالأمر اللين …
( وجاءهم الموج من كل مكان) نظروا إلى اليمين فارتاعوا وإلى الشمال فانصاعوا، وإلى الخلف فضاعوا، والى الأمام فماعوا … قفزت من صدورهم القلوب… وجحظت من جماجمهم العيون … وفارقتهم الدعة والسكون …
( وظنوا أنهم أحيط بهم ) فذهبت عنهم زخارف الدنيا … وتبدى لهم خبل عقولهم المغرورة التي ما كانت تفكر إلا في ملذاتها الدنيا … وشهواتها … وشركاتها وعماراتها …
هنا تنبه المسكين أن هناك قادر قاهر …. عليم بالنوايا والخواطر … لا يخفى عليه باطن أو ظاهر … قادر على تبدل الأحوال، بيده الأعمار والآجال … رحيم ودود … غني حميد … فوجهوا قلوبهم إليه … وتمتمت شفاهم ضارعة إليه … وذرفت دموعهم توبة لديه … وعضوا على أناملهم حسرة على ما فرطوا في جنبه …
( دعوا الله مخلصين له الدين ) فلا دنيا غروره عادت تنفع ولا شيطان يبقى له في القلب مرتع …. وذاب تكبر النفس الأمارة أجمع، فما عادة تفكر إلا بالنجاة مطمع …
ومن هنا فقد صمم الجميع إلى العودة إلى الطريق الصحيح … دون مواربة أو لف أو دوران … أو مماطلة أو تأجيل؛ فها هم قد رأوا الموت بأم أعينهم … يطل عليهم … فلا مجال إلا للتوبة … ولا مكان إلا للنية الصادقة … ولا محل إلا للوعد الجازم.
( لئن أنجيتنا من هذا لنكونن من الشاكرين) أنه التصميم على العودة إلى أعلى مقامات الاستقامة والالتزام … إنه الشكر على كل نعمة أهداها لنا الخالق سبحانه وتعالى.
وهنا تأتي الرحمة من واهب النعمة تبارك وتعالى فيزيل تلك الغيمة … ويزيح تلك المحنة … ويذهب تلك النقمة … وإذا بالأمور تعود إلى مجاريها رويداً رويداً … وإذا بشاطئ الأمان … يظهر للعيان …
فسبحانك يا حنان يا منان … يا واهب العطايا للإنسان … يا من لا يشغله شأن عن شان … سبحانك وبحمدك عدد خلقك … ورضا نفسك … وزنة عرشك ومداد كلماتك … كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون.
هذه هي قصة الإنسان … في رحلته في هذه الأكوان، ليس له إلا اللجوء إلى الرحيم الرحمن… ولذلك فإن الله سبحانه يمتن على عباده بأنه هو وحده الذي يجيب الدعاء ]أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ( (النمل:62).
لا أحد سواه أبدا: إنه الخالق الرازق السميع القريب المجيب الرب الأحد الفرد الصمد مالك الملك ذو الجلال والإكرام … تقدست أسماءه وجلت صفاته …
فيا أيها المخلوق … اطلب من الخالق … ويا أيها الضعيف الجأ إلى القوي …. ويا أيها الذليل الجأ إلى العزيز ويا أيها العبد فر إلى الله.]فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [ )الذريات:50).
ليس المضطر بأولى بالدعاء:من الطبيعي أن يدعو المضطر إلهه العظيم؛ ليكشف عنه السوء، ولكن لا يعني ذلك بأن المعافى يجوز له أن يترك الدعاء وذلك:
1- لأن كل دقة من دقات قلب الإنسان بحاجة إلى أذنٍ من المولى عز وجل … وكل طلوع شمس بحاجة إلى أمر من الله سبحانه … وأنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بأمر الله تعالى …
2-أن الذي خاف منه راكبو السفينة أمر صائر له كل المخلوقات … فالموت لابد منه … ( كل نفس ذائقة الموت )185 ( آل عمران).
3- أن الذي لا يدعو الله عند الرخاء هو مخدوع فالدنيا لا تدوم ((.تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )).
4- و الشدة هي لإعادة الإنسان إلى الدعاء … فلماذا تغفل عن الرجوع دائما ً] وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( (النور 31).
5- إن الشدة الحقيقية التي تحتاج إلى عمل صالح حقيقي ودعاء دائم هي في يوم القيامة لقوله تعالى:] كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [(آل عمران:185).
6 -ومجالات الدعاء كثيرة وتملأ حياة الإنسان ففي القرآن ما يزيد على 300 دعاء؛ لأن الدعاء من ضروريات الإيمان ودليل على حبك للرحمن، فالصلاة دعاء كما أسلفنا، والاستغفار دعاء كما قلنا، والصلاة على الرسول (r) دعاء، حتى إن أداءك للأعمال يجب أن يعقبه طلب القبول كما كان يدعو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند بناء البيت.
]ُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ (البقرة: 127).
والدعاء ضروري للأولاد و للسعادة والتمكين ] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً[ (الفرقان:74). والدعاء مهم للثبات على الإيمان ]رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8
والدعاء واجب لدفع العدو وكيد الطامعين واستهزاء المستهزئين ]فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ % وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( (يونس:86) و للثبات على الدعاء ولقبول الدعاء نحتاج إلى الدعاء]رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) [إبراهيم:40).
والدعاء خير ما ينفع السابقين من والد وإخوة في الدين وخير ما يطهر القلب من الأدناس: ]وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ (الحشر:10) وللدلالة على الطريق نطلب من الهادي ]وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22 ولدلالة على طريق السعادة] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)
وفي الجهاد دعاء ]وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250
والمتفكر في خلق الله يرجع الأمر عند العجب إلى الله تعالى فيدعو ربه قائلاً ]ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار (( آل عمران 191 ).
ودعاء آدم بالمغفرة ) ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين( (الأعراف 23).
وللتعوذ من الشيطان في كل حال خاصة عند النزاع والموت ] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ%وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (المؤمنون:98).
و حتى على خشبة الإعدام ]ربنا افرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين [ الأعراف 126.
والدعاء على الكافرين ) رب انصرني على القوم المفسدين ( (30 العنكبوت).
وطلب إنزال الحكم والعقاب على الظالم ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ( الأعراف 89.
وحتى الملائكة تدعو للمؤمنين بقولهم ) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ( (غافر:7)
وقال تعالى في معرض الإنكار على من لا يدعو الله تعالى وخاصة عند الشدائد] فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[(الأنعام:43)
)قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً( (77الفرقان ).
]قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ (الزمر: 53)
أبعد كل هذه الآيات يجوز لنا أن نترك الدعاء أو نغفل عنه؟!
ثم إن بعض من ينتسب إلى الإسلام لا يتوجه إلى الله في الدعاء … فويل له ثم ألف ويل له.
لذلك فإن سيدنا عمر لم يكن ليخاف أن لا يجاب دعاءه، ولكنه كان يخاف أن لا يتوجه للدعاء أصلا؛ لأنه مكمن الحرمان؛ ولأن استجابة الدعاء لابد منها.
[1] باخرة التايتانك قيل عنها أنها أضخم باخرة في العالم أبحرت من بريطانيا متجهة إلى أمريكا وسط حشد من المودعين، ولكنها غرقت خلال دقائق في عباب البحر.